14- جولة على (تاتان)

هذه  المدونة تحكي عن فترة خدمتي  الالزامية في الجيش (1974-1976) حيث تم منحي رتبة ملازم مجند احتياط في الحرب التي دارت في شمال العراق بين الجيش العراقي من جهة وبين المقاتلين الذين كانت تسميتهم الرسمية (العصاة) (المتمردين الاكراد) وتساندهم القوات الايرانية. 

14- جولة على (تاتان)
ا د سامي سلمان
الصفحة التالية –على خلاف المعتاد- لم أكتبها أنا, فهي قد ارسلها لي زميلي الطبيب المختص بفحص وظائف القلب د(حارث بلال).
   د حارث كان زميلي في الإعدادية في (كلية بغداد) 1962-1967 ثم في (كلية الطب جامعة بغداد) 1967-1973 وبعد خدمة الإقامة الدورية تم تسويقه معي للخدمة العسكرية في مدرسة الطبابة العسكرية في معسكر الرشيد ثم تم زجه في حرب شمال العراق عام 1974. ارسل لي ما كتبه عن ذكرياته في الخدمة في حرب الشمال بين الجيش العراقي و(العصاة) ألاكراد تسندهم (القوات الإيرانية), ووجدت الأنسب أن أفرد لها صفحة كاملة لوحدها.. لأنها تستحق ذلك أرجو أن تروق لكم.

في أحد الايام أخبرني (الآمر) أنه سيقوم بجولة تفتيشية على سرايا فوجنا على قمة جبل تاتان وظهر السمكة، وهم على خط النار.

"قال لي: "إذا تريد تعال معي ولكن بدون إجبار"
أجبته " نعم أرغب". لأني في تلك في تلك اللحظة تذكرت كلام الزميل الطبيب الذي انا كنت بديله كطبيب للفوج, حين قال لي: " المنظرمن قمة الجبل بديع جداً خصوصا أمامك سيكون جبل (كلاو حسن) نسبة لشكله الذي يشبه غطاء الرأس ال(كلاو)". وفي نفس الوقت فكرت انها فرصتي كي أزور الجنود الذين هم في خط النار وتحت قصف شديد متواصل وتحت الثلج والبرد الانجمادي والضباب المستمر.
       ذهبنا انا والسيد الآمر ومراسله فقط وبدون حماية حتى لا يترصدنا الأعداء عندما يشاهدون أي تجمع. وكان (المراسل) يمشي إلى الأمام وبعده بعشرات الأمتار (السيد الآمر) وبعده بعشرات الأمتار كنت (انا). وكان الآمر قد قلب رتبته الى الداخل خوفا من القنّاصين. كان القصف مستمرا ومعه صداه يصدح بين الجبال, مكوناً معزوفات مستمرة!. التفت الآمر الي وصاح " دكتور هذولة ميدكون غير.. (ستريو)". مذكراً إلى كونه اشترى حديثاً (مسجل) (ستريو).. يعتبر آخر صيحات ذلك الوقت, ولم يكن يعرف كل مواصفاته لأن التعليمات كانت بالإنجليزية فكنت اترجمها له.

     عند وصولنا إلى أعلى احد قمم جبل (تاتان) المكون من ست قمم، أربعة بيد الجيش العراقي وقمتين بيد (العصاة), وكانت جثث شهدائنا وقتلى (العصاة), مدفونة في الثلج في (الأرض الحرام) بين الجانبين. تعبت من كثرة المشي والصعود. صعد الآمر ومرافقه وبقيت أنا لا أستطيع تكملة الصعود, وقد بلغ مني الإعياء الى أشدّه. أرسل الأمر جنديين كي يساعدونني على تكملة الصعود لملاجئ سرايانا.
     قال لي الآمر "دكتور انت لا تفيدنا هنا لأننا عندنا هجوم وانسحاب, وأنت ليس عندك لياقة بدنية ولا نستطيع الاعتناء بك".
 أجبته: "سيدي انا مريض بتوسع القصبات والمثبت بالأشعة الملونة ولكنهم لا يقبلون أن يحيلوني إلى اللجنة الطبية".
أجابني الآمر: "دكتور.. خذ وعد مني.. بمجرد أن ننسحب إلى أربيل سوف احيلك إلى اللجان الطبية, فقط تحمّل معنا هذه الظروف الصعبة لأنهم لن يرسلوا لنا طبيب بديل ليحل مكانك".
أثناء الكلام داخل ملجأ (آمر السرية) انقصفنا بقنبلة سقطت قريبة منا. الفانوس النفطي التهبت ناره نتيجة العصف ثم خبت. إتصل آمر السرية بالملجأ القريب منا وسألهم: "هذه عليكم؟" أجابه الضابط: "اطمأن سيدي.. سقطت بيننا وبينكم".
       بعدها زرت سرايا الجنود لفحص المرضى. أحدهم كان مصابا بمرض جلدي من نوع (الفطريات) بين افخاذه. كتبت له مرهم ليدعكه عليها.. ووعدته بأن يصله العلاج بعد يومين من مفرزتنا الطبية.
قلت له: "يجب عليك أولاً أن تغسل المنطقة وتّنشفها قبل وضع المرهم"!
أجابني: "سيدي نحن لدينا ماء يكفي للشرب فقط".
قلت له: "إذاً عليك إذابة بعض الثلج النظيف حولك وتحيله الى ماء"!
قال: " سيدي كيف أذيب الثلج؟, نحن الجنود ليس عندنا (صوبات)"
أجبته: "إستعمل الحطب".
أجابني: "سيحرقونا بالقصف إذا أوقدنا عود كبريت (شخاط)!".

      تركته وذهبت إلى ملجأ آخر حيث صادفت منظراً عقد لساني من فرط الدهشة.. إذ وجدت هناك ثلاثة جنود مكبلين بالسلاسل وحالهم يرثى لها.
سألت الآمر: "لماذا جنودنا مكبلين بالسلاسل هكذا"؟
اجابني الآمر: "هذولة جنود هاربين, كان إعتقادهم أنهم إذا هربوا وألقي القبض عليهم فإنهم سيقضونها في أمان بالسجن... ويخلصون من الجبهة!. هؤلاء تم الحكم عليهم في محكمة عسكرية.. وسوف يقضون مدة محكوميتهم في نفس الفوج الذي فرّوا منه, ثم, وبعدها, سوف يكملون ماتبقى بذمتهم من مدة خدمتهم العسكرية!"
     
      بعدها انتقلنا إلى جبل (ظهر السمكة) وهناك التقيت بضابط عنده جهاز مسجل.. وجدت ذلك الضابط يعلّى صوت مسجله إلى أعلى درجة... ويضعه على أذنه عندما ينام حتى لا يسمع صوت القصف المستمر ليلاً ونهاراً. الممر إلى هذا الجبل كان صعباً وضيق جداً.. يسمح بمرور شخص واحد... وقبل فترة سقط جندي منه إلى الوادي واستشهدِ… لا ادري إن كان قضاءً وقدراً أم إنتحاراً.
والحمد لله رجعنا إلى ملاجئنا سالمين.
في إحدى الليالي الثلجية والتي لا يسكت فيها القصف علينا إتصل بي الآمر وقال :"أرسلت لك جنوداً شهداء.. أريدك تفحصهم!".
إجبته:" سيدي.. طالما أنهم شهداء.. يعني شلون أكدر أفحصهم؟"
أجابني:"أريدك تفحصهم وتشوف سبب استشهادهم. هل بسبب شظايا القنابل أم بسبب إنهيار الملجأ عليهم نتيجة سقوط القنابل. حتى نعيد النظر في طريقة صنع الملاجئ!".
       فحصت الشهيدين الذين جلبوهما الى ملجأي, ثم أعطيت تقريري الطبي للآمر والذي لا اتذكر نتيجته. بعدها قلبت الجلكان (كالون الماء), ولكن الماء لم ينزل لأنه كان متجمدا لشدة البرد. حدثت نفسي أن لا داع للغسل.. طالما أن الذين فحصت جثثهم هم شهداء طاهرين, وتهيأت للنوم.

      في إحدى الليالي عندما كنت نائما سمعت خرخشة عند باب ملجأي الصغير صرخت: "من انت"؟. لكنه لم يجب عدة مرات.
هيأت مسدسي كي أرمي المتسلل, لكنه أجاب هذه المرة وقال: "هذا انا.. ضابط فلان.. لماذا انت خائف؟"
كان ضابط المدفعية في فوجنا. وعندما شاهد المسدس بيدي مصوباً إلى صدره.. تصبب عرقا وقال: "أنا لم أكن أعرف إن عندك مسدس!".
ثم قال: "أنا سأنتظر بجنبك, إذا سمحت لي.. لأن ضابط الصواريخ لم يستطع الصعود لنا لحد الآن!"
أجبته: " ولكن الطريق قد جف من الثلج والأوحال وصار صالحاً للقيادة".
اجابني: "هو معه شاحنة (راجمة الصواريخ).. والطريق لا يسعها".

       هنا.. خطر لي أن أسأله: " سيدي الأعداء دمّرونا بالقصف.. وأنتم صامتون لا تردّون عليهم!"
أجابني: "دكتور نحن ليس عندنا القدرة على أن نسلط كثافة نارية مثل التي عندهم"!.
        الذي سمعته منه اننا نمتلك عدداً محدوداً من المدفعية الثقيلة. حتى إنهم أعطوها أسماء مثل ( بطل الجولان) لمشاركته في الحرب ضد إسرائيل قبل أكثر من سبع سنوات. ومدى مدفعيتنا أقل من مدى مدفعية (شاه إيران). ومؤخراً صاروا يضربوننا بقنابل الفوسفور الحارقة, نعرفها من دخانها الأبيض.
     كنا نخاف من قصف المدافع الإيرانية علينا. وكذلك كنا نخاف من قصف مدفعية جيشنا نفسها, لأنها مدفعية قديمة عفا عنها الزمن, وفي عدة مرات- تقصر- يعني تسقط قبل المسافة المقدّر لها. مما يعني إننا كنا في الخطوط الامامية بين نارين!!.
     وقد زاد وضع جيشنا سوءاً عندما دخل الخدمة عند الأعداء, المدفع بعيد المدى (النمساوي) عيار(185 ملم) مقارنة بمدافعنا عيار (155ملم). والذي كان له آثاره السيئة علينا, وعلى نتائج تلك الحرب اللعينة..

تعليقات

  1. عزيزي د سامي لك الحق في افساح المجال للاخ دحارث في الكتابه فمذكراته لاتقل تشويق عن مذكراتك وموهبته في الكتابه واضحه نهنئكم على هذه القابليه الفذه

    ردحذف
  2. مذكرات وسرد جميل جدا وبنفس الوقت يدمي القلب مع الأسف نا اصور راح يجي يوم يرتاح بي الشعب العراقي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب