11- سوق سوداء.. فوق جبل (زوزك)
هذه المدونة تحكي عن فترة خدمتي الالزامية في الجيش (1974-1976) حيث تم منحي رتبة ملازم مجند احتياط في الحرب التي دارت في شمال العراق بين الجيش العراقي من جهة وبين المقاتلين الذين كانت تسميتهم الرسمية (العصاة) (المتمردين الاكراد) وتساندهم القوات الايرانية.
11- سوق سوداء.. فوق جبل زوزك
2 آذار 1975
ا د سامي سلمان
إبن دورتي و زميلي (نوبار) كان قد كسب ود وقلوب ضباط الفوج, فهو إنسان على درجة عالية من
الطيبة والخلق وحسن التعامل. لكني أيضاً أرجح إن تعلق الضباط, ومعظمهم من وسط
ريفي, يعود لأمر آخر..
هناك عقدة معينة تسمى (عقدة الخواجة), وهي إن الأعراب واهل الريف يتصورون
بأن الأجنبي أفضل وأكثر فهماً من إبن
بلدهم, وإن الشخص ألأشقر هو أفضل من الشخص الإسمر, وبذلك فإن الطبيب المسيحي هو
أفضل من الطبيب المسلم, وإن من إسمه (جون) أفضل ممن إسمه (عبدالله).. وربما كانت
تلك ايضاً إحدى أسباب تعلق الضباط في (ف2ل5) بزميلي(نوبار),
وقد
عانيت كثيراً خلال الايام والاسابيع التي
تلتها في محاولة إقناع الآمر والضباط باني لست أقل كفاءة اومعرفة وعلماً من (نوبار)!
كانوا يقضون الوقت كله في إستشارتي, واحياناً يسألونني اسئلة في غاية السخف!. فما
ان يأتي الغداء حتى يبدؤوا تلك الاسئلة الساذجة التافهة, ينظرون الى البصل"دكتور البصل مفيد؟"
"زين... الباميا مفيدة؟" "الطماطة شتفيد؟""البيتنجان شنو
منفعته؟" ومهما كانت اجابتي فإنهم كانوا يقارنوها بما كانوا قد سمعوه سابقاً من (نوبار) ثم يقولون "ولكن.. إنت غلطان!..
دكتور (نوبار) قال كذا وفعل كذا". بالتأكيد كان (نوبار) قد سحرهم بالكامل,
وتمكن من كسب ثقتهم بالكامل!.
مرت الأيام على جبل زوزك سريعاً.. أجلس بعد
الفطور أمام مغارتي لأنال قسطاً من أشعة الشمس
الدافئة بين أكوام الثلوج المحيطة بي.. يراني الجنود جالساُ حاملاُ كتاب ضخم في
الطب الباطني كنت قد أقسمت أن اتمم دراسته في فترة الخدمة العسكرية إلا إنني لم
أبر بقسمي! فالجنود ما إن يروني حتى يهرع كل منهم بأعراض معظمها لا تحتاج الى علاج.. (تشنج) من حمل صناديق العتاد
والتجهيزات الثقيلة, (مغص) من طعام لم يتم طهيه بشكل جيد, (سعال) نتيجة النوم في العراء وفي درجة حرارة
الإنجماد, (صداع) بسبب عقوبة إلغاء إجازة دورية نتيجة لمزاج متقلب لأحد الضباط
الخفر!..
ألأمر الذي استغربته أكثر في هذا الفوج
(الفوج الثاني اللواء الخامس جبلي), كان وجبات الطعام.. في مفارزي السابقة في
(قشقة وبستانة وحرير وكلي علي بك) كنت أدفع ثمانية دنانير شهرياً لأحصل على فطور
متواضع جداً, وغداء من الرز والمرق تختبأ فيه قطعة لحم صغيرة لايزيد وزنها الخمسين
غراماً, وعشاء (نباتي-بلا لحم) من الخضروات المقلية (بيتنجان وشجر وطماطم مقلية
بالدهن). وعندما كنا نسأل (ضابط المطعم), كان يجيب بأن مبلغ الدنانير الثمانية
لايكفي إلّا الى قطعة لحم صغيرة في وجبة الظهر.. فقط, وكان بقية الضباط, بما فيهم
الآمر يحجمون عن زيادة المبلغ الشهري الى عشرة دنانير كي نحصل على قطعة لحم اضافية
في وجبة المساء.
أول
فطور لي على قمة (زوزك) وعلى مائدة بقية ضباط المقر, كان فطوري صحن يحتوي
على (شيشين كباب وشيشين تكّة وشيشين (معلاق)!).. أكلت وأنا غير متعود على هذا
البذخ ال(أسطوري), لكني تصورت إنه مناسبة
خاصة إحتفاءّ بمقدمي! ثم في الغداء جلست مع الضباط وكان صحن غدائي من (التشريب)
يحتوي على قطعة من اللحم يقارب وزنها نصف
كيلوغرام!, وفي العشاء كان هناك اللحم الكثير ايضاً!..تكرر الأمر كل يوم وكان
ذلك من الأمور التي حيرتني ودفعتني للتساؤل عن المبلغ الذي يتوجب علي دفعه ل(مطعم
الضباط) مقابل تلك الوجبات السخية؟ أجابني (ضابط المطعم) (ستة دنانير فقط)!!
معقولة؟؟.. كل هذه الوجبات الباذخة التي لم أحلم بتناولها حتى في بيت أهلي في
بغداد!.. ب(ستة دنانير) في الشهر!..
عندها أجابني ضابط من أهالي الموصل إشتهر
بشجاعته إسمه (عبدالكريم الجحيشي).. بأن إختلاف هذا الفوج عن بقية الأفواج, إن
بقية الأفواج تستلم اللحوم من المتعهد الجزّار مذبوحة ومقطعة.. بينما إتفق آمر هذا الفوج مع قيادة الفرقة أن نستلم
أرزاقنا (خراف حية) ترزق!, وبما إن عدداً من الجنود هم من أهالي بادية الموصل مهنتهم ألأصلية التي يعشقونها هي
الرعي.. هؤلاء يأخذون تلك الأغنام لرعيها وجميع تلك الأغنام محسوبة بدقة ولها سجل رسمي خاص.. ومن توالد تلك الإغنام وتكاثرها
تكون هناك زيادة جديدة في ألأعداد, غير مسجلة في الدفاتر الرسمية!.. وهي ما يتم
ذبحها كي نتناولها ببذخ في مطعم الضباط!!.
(ولم أدر أو أسأل في وقتها, إن كان ذلك البذخ يشمل (مطبخ الجنود) ايضاً, إلا إنني كنت متأكداً إنهم يحصلون -على
ألأقل- على لحوم طازجة, تذبح يوماً بيوم,
وهو أفضل بكثير مما رأيته في الوحدات العسكرية السابقة)!... فكرة ذكية كنت أتمنى
لو طبقتها تلك الأفواج (البخيلة) التي كنت
متجحفلاً معها سابقاً...
ألجندي (المراسل) المعني بخدمتي .. جاءني
في أحد الأيام يطلب مني الكتابة على قصاصة ورق موجهة الى (حانوت الفوج) موقعة من
قبلي, تفيد بأنني أرغب بشراء نصف كيلوغرام
من السكر وربع كيلو من الشاي, وثلاث علب من السيكاير!
سألته "أنا لا
أحتاج لهذه المواد!"
أجاب بتوسل "هي
لأصدقاء لي من الجنود"
سألته بتعجب
"ولماذا القصاصة؟ لماذا لا يشترونه بأنفسهم مباشرة؟
شرح لي وأنا مذهول,
بأن هناك سعران للمواد المعروضة في (حانوت الفوج) (سعر رسمي) مدعوم للضباط, وسعر
بإضعاف مضاعفة.. للجنود!
لست أدري إن كان ذلك بسبب كوني شخص مدني تم
إستدعاؤه للخدمة في الجيش وتم منحه رتبة ضابط بقدرة قادر, أو لكوني إنسان ينظر
للأمور بمنظار مختلف عن الآخرين, فقد إستفزني هذا الأمر! أي ظلم هذا؟ أي مأساة نحن
نعيشها؟ الجندي الذي هو على قمة جبل في وسط الثلوج, لا يسمح له بالماء الصافي
وعليه إن ينتظر كي يقوم بتذويب بعض الثلج الذي يجمعه ليستعمله في الوضوء والغسل,
والآن علمت إن المسكين يجب أن يدفع ضعف مايدفعه الضابط لشراء مواد أساسية لحياته؟
هل هناك ظلم أكثر من هذا؟ في ذلك الوقت كان راتب (الملازم) (65) خمسة وستون
ديناراً يضاف لها (25) خمسة وعشرون ديناراً بدل إنذار (جيم) و(حركات فعالّة),
فيكون مجموع ما يستلمه شهرياً (90) تسعون ديناراً, مقابل (4) اربعة دنانير الاّ
ربعٍ هي كل ما يستلمه الجندي المكلف المسكين!.
إنطلقت إلى (المساعد) وبعد أن أديت التحية
سألته بكل ود عن (حانوت الفوج) وإن كان يعرف بأن هناك (سوق سوداء) حيث المواد فيه
تباع للجنود بأسعار غير تلك التي تباع للضباط؟ أجابني بنعم, وهو إجراء مضطرين له
لأن عدد جنود الفوج المرابطين على قمة الجبل كبير, والمواد يجب أن تنقل على ظهر
البغال وهناك أولوية للسلاح والعتاد والماء, ولا يتم وصول المواد الأخرى إلا بشق
الأنفس, وعليه يجب أن يحدّوا من الهدر بها ورفع أسعارها, هو إجراء هم مضطرون له!
لست أدري للآن إن كان
هذا الجواب قد أقنعني, ولربما كنت سأرضى لو كان رفع الأسعار بالتساوي والعدالة
ويشمل الجميع!..
من رسالة للزميل اختصاصي الباطنية الدكتور عبدالرضا العباسي:
كان لنا عدد من الاغنام نحتفظ بها كأرزاق طوارئ نذبح منها عند الحصار
وعند تساقط الثلوج وقطع الطريق، وكنت اتحايل احياناً بذبح خروف عندما نشتهي
المعلاق في البرد، ثم ارفع تقريراً الى آمر الفوج بأن الخروف مصاب وينبغي ذبحه قبل
ان ينفق، وقد كررت هذا الفعل لمرات وعلى مسؤليتي الخاصة اذ انني انا المسؤل عن ذلك،
وان الخروف عندما يذبح بحالات غير طارئة يشكل مجلس تحقيقي بذلك ويرفع الى اللواء،
وربما تحدث بعدها مساءلة عسكرية، واتهام باتلاف الارزاق، ولكن دون التكة والمعلاگ
كل شئ يهون،؛ وكانت بقايا الصمون العسكري التي تتبقى من الارزاق ياخذها الجنود الى
البغال لتأكلها، وفي احد المرات لم تصلنا الارزاق والطحين من السليمانية بسبب
انقطاع الطرق، فرجعنا الى فضلات صمون البغال واكلناها، وكان السعيد منا من يحصل
على جزء من صمونة ابقاها له البغل، وما الذها عند الجوع.
تعقيب من الزميل الدكتور أنعم الصالحي:
أستمتع دوما بما تدونه و هو يجعل سيل ذكرياتنا ينساب امامنا ....
كنت أجلب معي في كل إجازة ...
كتابا ثقافيا ... كما و قد قمت "بتقطيع" كتاب Price للطب الباطني... الى اجزاء كنت احمل احدها معي ... فقد كنت احب الطب الباطني ... و اعددت لامتحانه ... لولا وزير الصحة في حينها... غفر الله له...
راتب الضابط الطبيب كان ثروة في وقتها ...
و قد كنا لا نستلمه بل نتركه عند الضابط الاداري أمانة ... في الخلفي... لناخذه معنا عند النزول ... فلم نكن نعرف... هل سيكتب لنا النزول سالمين في الاجازة التالية!.
الارزاق "الحية"...
هي خير ما في هذه الوحدات التي كانت تمسك بالقمم الشاهقة...

الاخ العزيز د سامي المحترم كما قلت لك سابقا مهرتك الادبيه في الكتابه لاتقل ابدا عن مهارتك في المفاصل
ردحذفأشكر لكم كرمكم بكلماتكم الطيبة..
حذفاهنئك على هذه الموهبه ونحن بانتظار المزيد من كتاباتك اها الاخ العزيز
ردحذفشكراً جزيلاً .. تشجيعكم هو مايحملني على الإستمرار
حذفإذا كنت تبحث عن مُقرض قرض نادر ، فأنت بحاجة إلى التحقق من Freedom Financial Network على WhatsApp: +393509056428 أو البريد الإلكتروني: FreedomFinancialNetwork@outlook.com. كنت أبحث عن قرض لعلاج والدي وكنت قد استسلمت تقريبًا. ذهبت فقط لأرى ما لديهم وكانوا أكثر الناس ودية! لقد ساعدوني بقرض قدره 13000 دولار لسداده في 10 سنوات. هم صادقون وموثوقون. أوصي بها هنا لأي شخص يحتاج إلى قرض.
ردحذف