5- المساعد عبدالجبار
هذه المدونة تحكي عن فترة خدمتي الالزامية في الجيش (1974-1976) حيث تم منحي رتبة ملازم مجند احتياط في الحرب التي دارت في شمال العراق بين الجيش العراقي من جهة وبين المقاتلين الذين كانت تسميتهم الرسمية (العصاة) (المتمردين الاكراد) وتساندهم القوات الايرانية.
5-(المساعد (الرائد عبد الجبار الكروي)
ا د سامي سلمان
بقيت علاقتي محدودة به.. فلا مجال لمطارحة الادب او الشعر او حتى النقاشات الفكرية ... رغم ان الوقت طويل جداً في مقر الفوج حيث لايوجد كهرباء او أيّة وسائل ترفيه, والوسيلة الوحيدة لقضاء الوقت هي الاستماع الى قصص عابرة من بقية ضباط المقر, معظمها تدور حول النساء والجنس, كما لو كنا مجموعة من المراهقين..وكان مجئ البريد إنقاذاً بالنسبة لي لأنه يوفر لي وقتاً للإستئذان ومغادرة سرداب المقر.. للإختلاء بنفسي للقراءة او الكتابة او الصلاة...
مرت الأيام طويلة .. بين برد شديد ومطر وريح... وبعد مرور حوالي شهر من التحاقي بالفوج حصلت حادثة مهمة...
كان (آمر) الفوج في ذلك المساء مجازاً في بغداد, وكان الرائد عبد الجبار (المساعد) يقوم بواجب الآمر...
في احدى الامسيات المظلمة شديدة البرودة, الملبدة بالغيوم الممطرة.. بحيث تنطبق عليها الآية (ظلمات بعضها فوق بعض) (إذا أخرج يده لم يكد يراها).. جاءه نداء على خط الهاتف الميكانيكي من إحدى الربايا التي تحرس معسكرنا باتجاه الممر الرئيسي القادم من (قوشتبه).. اخبروه ان هناك عجلة عسكرية لا يمكن التعرف عليها.. قد اجتازت أول خط دفاع ولم يجيبوا على طلب (سر الليل) من الحرس المتقدم, وإن العربة لم تستجب للنداءات المتكررة بأن تقف, وهي مستمرة بالمسير بإتجاه المقر!
و(أمركم... سيدي)..
كان لابد للمساعد أن يتخذ القرار الفوري.. فقبل بضع أيام كان هناك وابل من قصف مدافع هاون من قبل (العصاة) على مقر فوجنا..
بذعر أعطى الأمر بإطلاق النار على العجلة... وخلال دقائق أمطرت العجلة العسكرية بوابل من الرصاص من المدافع الرشاشة من قبل احدى الربايا.. قتل على اثرها السائق, وجلبوا الآخر الراكب جنبه وهو ينازع الموت..
عرفنا بسرعة ان السيارة العسكرية المصابة هي تابعة لفوجنا كانت قد تأخرت وتعطلت مصابيحها الأمامية, ولشدة الظلام وغزارة المطر لم ير السائق او يسمع الجندي الذي طلب منه (سر الليل) و دون أن يسمع الاوامر المتكررة بالتوقف.. إستمر بالمسير بإتجاه الفوج, ليستقبله وابل من الرصاص من الربايا التابعة لنفس الفوج الذي ينتمي له..
كان الجندي السائق قد توفي على الفور فجميع الرصاص كان من جهته, اما الجندي الجالس جنبه فكان ينازع.
بادرت بفحص الجندي المصاب.. كانت هناك ثلاثة جروح مداخل لاطلاقات نارية في والكتف والساعد.. ولكن الخطير كان في الصدر, تنفسه كان مضطرباً بسبب الاصابة ونبضه سريع لكن قوة النبض كانت جيدة..
هرعت لصندوق الإسعافات الذي في خيمتي.. وتمكنت من العثور على وريد مناسب في ذراعه, وعلقّت له سائل الماء الملحي بالوريد لتعويض الدم الذي نزفه.. كل ذلك على ضوء ال(لاله) النفطية التي حملها احد رفاقه الجنود... اخذت أضمد الجروح لإيقاف النزف و كمادات ضاغطة, بينما كان (الرائد عبدالجبار) المذعور واقفاً جنبي وهو يرتجف.. يناشدني بأن أخيط الجروح! قلت له لا يمكن خياطة الجروح الآن مادامت ملوثة ولاتزال في داخلها أجسام غريبة من رصاص وشظايا زجاج السيارة... سوف اضمد الجروح بشكل مؤقت بأربطة ضاغطة لإيقاف النزف, ويتوجب إرسال الجندي الجريح فوراً الى ( مستشفى اربيل العسكري) مع ابقاء المغذي بالوريد طوال الوقت.. لم يكن عندي سيارة اسعاف فأرسلته بسيارة (واز حظيرة) وهي سيارة دفع رباعي متوسطة الحجم...
كانت تلك أول حادثة مروعة أمر بها في خدمتي العسكرية..المشهد مؤلم جداً, نظرت الى وجه (الرائد عبدالجبار) لم تكن قد بقيت قطرة دم واحدة في وجهه.. فسيواجه مجالس تحقيقية حتماً ولن تمر الحادثة بسلام .. فقد إستشهد احد جنودنا و الجندي الآخر ينازع الموت.. ومن اطلق عليهم النار لم يكن (العصاة), وإنما أفراد من فوجهم نفسه وبأمر مباشر منه...

تعليقات
إرسال تعليق