8- عودة الى (حرير)


8-  عودة الى (حرير)

هذه  المدونة تحكي عن فترة خدمتي  الالزامية في الجيش (1974-1976) حيث تم منحي رتبة ملازم مجند احتياط في الحرب التي دارت في شمال العراق بين الجيش العراقي من جهة وبين المقاتلين الذين كانت تسميتهم الرسمية (العصاة) (المتمردين الاكراد) وتساندهم القوات الايرانية. 


8- عودة الى حرير

اد سامي سلمان

           في صباح 20 كانون الثاني  1975 وبعد الفطور استدعاني آمر الفوج  على  غير عادته! أخبرني بوصول كتاب بإنهاء تكليفي بالمفرزة الطبية في (ف6ل96) والالتحاق فوراً بمقر وحدة الميدان الطبية  الخامسة  في (حرير) بدون بديل.  كانت  مفاجأة لي ولكنها بالتأكيد سعيدة إذ كانت  تصلني الأخبار عن  زملائي ال(معشعشون) في وحدة الميدان ومقدار سعادتهم  في (أعشاشهم)!… على الأقل بوجود أبنية نظامية وغرف نوم وكهرباء وهي أمور قد نسيتها منذ أربعة شهور مضت… حزمت متاعي البسيط وودعت ضباط  الفوج والآمر الذي هيأ لي سيارة (واز حضيرة) مع سائقها تليق  بكوني ضابط, والتي  انطلقت بي  الى (أربيل) ومنها الى (حرير)..

        و(إذا عرف السبب.. بطل العجب). فقد عرفت فوراً إن الآمر السابق والذي كان يكيد لي, قد تم نقله.  وإن  الآمر الحالي هو (النقيب عبدالهادي الطائي) صديقي  من أيام الكلية الطبية, والذي ما أن استلم إمرة (وم ط5) حتى أخذ يدرس وضع الأطباء (المنفيين) في المفارز, وقرر استعادتهم, وكنت من ضمنهم!.

       مرت بضعة أيام فقط على وجودي  في (حرير).. حتى تم تكليفي بواجب مؤلم نفسياً.  كان واجبي الجديد في (وم ط5) فحص جثث الشهداء الجنود التي يعثر عليها احياناً مدفونة بالثلج على سفوح الجبال الثلجية ولا يمكن التعرف على هوياتهم. ففي معارك الفترة السابقة مرّ الجيش بإنتكاسات كبيرة وقام بالإنسحاب من العديد المناطق الجبلية المغطاة بالثلوج, تاركاً أحياناً جثث الجنود في مكان سقوطهم. بعد إستعادة بعض تلك القمم الجبلية, عثر على الكثير من الشهداء, وكان من واجب (الطبابة) فحص تلك الجثث, وبعضها قد  تفسخ او تحول الى هياكل وجماجم… وبالتالي على الطبيب أن يفحصها ويحاول التعرف على أسمائهم!!.. ولما لم تكن عندنا أية مهارات أو أي تدريب على مثل هذه المهمة المؤلمة و(البشعة أحياناً), فقد كنت أقوم بما يمكن لأي شخص أن يقوم  به, وهو أن أتفقد جيوب البدلة العسكرية الممزقة للشهيد أملاً بالعثور على ورقة  أو اي  دليل على إسمه, كذلك البحث  عن القرص النحاسي الذي يحمله الجندي والذي يحتوي على معلوماته… ولم يصدف لي أن عثرت على  أي منها, وبالتالي كان تقريري شبه الدائم.. (شهيد مجهول الهوية)..

        من الأمور  التي لا يمكن ان أنساها..  إن أحد (الضباط) في (وم ط5) كان لا يتردد من الإستيلاء على علب (السجائر) الموجودة في جيوب الشهداء.. بعضها قد بقي منها النصف  أو الربع أو سيجارتين او ثلاثة… و… يدخنّها! لا أدري كيف تسمح له نفسه بتدخين بضع سجائر وجدها في جيب  جثة متفسخة!.. ولكنها إحدى الصور التي علمتني كيف إن الحرب وبشاعتها قد تجرد الإنسان من آدميته! ويصبح لا قيمة حقيقية للحياة.. أو للموت.. ولا كرامة  لا لحّي ولا لميّت!.


        لم أهنأ طويلاً في (حرير) فبعد بضعة أيام فقط تم تكليفي بقيادة (مركز إخلاء الخسائر) المتمركز في (مبنى الكازينو السياحي) في شلال (كلي علي بك)..



       لم يكن واجبي في (م أ خ) في (كلي علي بك) مختلفاً  عن الذي كنته في (حرير).. ذلك هو محاولة التعرف على هوية العشرات من جثث الجنود التي وجدت مطمورة في الثلوج في الجبال التي تم (تحريرها) بعد خسائر فادحة.. فعند جبل (كورك) كان جيشنا قد إستخدم ال(بلدوزرات) لشق طريق من خلف  الجبل وإصعاد الدبابات إلى قمته كي تنزل  من الجهة الثانية لتسيطر على مداخل ومخارج مضيق (كلي  علي بيك)  بعملية عسكرية هي أقرب إلى الإنتحار, راح فيها المئات من الجنود.. كنت أقوم بفحص جثث متفسخة للجنود,  ثم كتابة بضع كلمات عن كل واحدة منها في كتاب رسمي ثم إرساله إلى مقر اللواء في (أربيل).. 

      في اليوم الأول  لي في مكاني الجديد في شلال (كلي علي بك) لم أتمكن من النوم من شدّة هدير الشلال.. في هدوء الليل كان صوته يصمّ الآذان,  لكن الشئ الغريب والذي أذهلني.. أنني  في الأيام الأخرى توفقت أذناي عن سماع الصوت تماماً!.. إختفى صوت الشلال من أذني وكأنه غير موجود بالمرّة!..

         كنت لا أزال في مفرزتي في (كلي علي  بك) عندما جاء أمر إلى وحدة الميدان الطبية الخامسة بالتحرك الى (أربيل), للاستقرار في إحدى الأبنية المجاورة لمستشفى أربيل العسكري.. انسحبت مع (و م ط5) إلى (أربيل).. كنت سعيداً بالخبر.. أخيراً سوف استمتع ببعض الوقت السعيد بوجود أبنية نظامية وكهرباء وبشر وحضارة!..

       ألأيام التي تلت ذلك كانت من أسعد أيام خدمتي العسكرية.. بوجود الزملاء (نزار الصفار) و(عوف عبدالرحمن) و(النقيب عبدالرزاق المتيوتي), وطبيب ألاسنان (خيرالله), وأخيراً.. الآمر.. صديقي من كلية الطب (النقيب عبدالهادي الطائي)...

        بسبب قرب المسافة مع مستشفى اربيل العسكري.. فقد  كانت أحلى ساعات الغداء تلك التي يزورنا فيها الدكتور (قاسم شمال), اظن رتبته في ذلك الوقت كانت (رائد).. (قاسم شمال) كان متحدثاً جيداً ويعرف كيف يختار القصص الواقعية التي تكون قد مرت به  خلال اليوم  او اليومين السابقين,  ليرويها لنا بطريقة لذيذة ومسلية.. وصار ديدنه أن يأتي مقرنا تاركاً المستشفى ليستمتع بالغداء معنا, ويمتعنا برواياته المشوقة, إضافة الى ما كنا نتعلمه منه عندما يحتوي موضوع القصة على معلومات علمية طبية, فهو كان قد قضى وقتاً في (بريطانيا) للدراسة, وجمع من هناك خزيناً كبيراً من القصص الطبية والعلمية.. كنت أستمع لها  بشغف, وكنا نفتقده عندما (ينزل) في  إجازته الدورية…

        وككل قصة سعيدة.. لابد أن تكون هناك منغصات.. بالنسبة لي كنت منهمكاً في  تلك الفترة في إكتشاف القرآن بعمق.. وأحاول حفظ سورة (البقرة) عن ظهر قلب. لكن الآمر (عبدالهادي) وهو الإنسان المرح الطيب كان يمارس خطيئة كبيرة هي الإفراط في شرب الخمور.. ليس هذا وحسب لكنه كان يرغب بأن نجالسه ونكون معه في أثناء تناوله ال(عرق) الرخيص الذي يجلب من (عين كاوة).. وبذا دخلت في صراع مع نفسي.. الصراع الأزلي بين الدين والخمر.. لذا فبعد (سعادة) الأيام الأولى في (أربيل) حيث كنا نذهب ليلاً  بسيارة (واز حضيرة) الى النادي العسكري, والذي يوفر العشاء اللذيذ و(عرق عينكاوة) وعروض أفلام سينمائية على شاشة كبيرة… كنا نعود بالسيارة ال(واز) بعد منتصف الليل… توقفت بعد فترة قليلة من الذهاب للنادي العسكري,  كما توقفت عن مجالسة  صديقي العزيز (عبدالهادي) رغم أنه لم  يتوقف يوماً  عن إرسال من يستدعيني كي أجلس معه.. وربما أزعجه إنقطاعي عن مجالسته أثناء تناوله الخمر.. وربما  كان ذلك سبباً في فتور في علاقة جمعتني به منذ أيام التلمذة في كلية الطب والتي كانت أعلى درجات الود بين الأصدقاء...

رسالة من الاخ أستاذ الطب الباطني الدكتورعبدالرضا العباسي

اخي العزيز ا د سامي

        كل يوم اكتشف قفشات حلوة في مدونتك الرائعة واتمنى من بقية الاخوان ان تجود اقلامهم بسرد مايجول بذاكرتهم عن تلك ايام الكلية الرائعة فهي اكثر مايبقى بذاكرتنا المتعبة ولانها ايام الفتوة والنشاط والعناء والاصالة, وانا بدوري ساستمر بعصر ذاكرتي لاضافة ما استطيعه لها فهي تراث عراقي سيبقى لمن بعدنا. ذكرتني ثانية بزميلنا العزيز المرحوم (عبد الهادي الطائي) ورغم ان ولده البكر اسمه (نورس) ولكنه بقي (ابو حسن) الى ان ودع الدنيا قبل حوالي ثمانية اعوام نتيجة جلطة في القلب, رحم الله اخانا ابا حسن فلقد كان كريم النفس وكان متلافا لايبقي درهما بجيبه او بجيوبنا نحن اقرب شلته اليه. وكان في الخدمة العسكرية حيث قضى اكثر خدمته في الوحدات البعيدة وجبال كردستان كان مضيافا جدا ولكن شطحاته وتمرده على الصرامة العسكرية قد اوقعته في الكثير من المتاعب مع رؤسائه.

على سبيل المثال واثناء الحرب في الشمال وكان (ابو حسن) آمراً لوحدة ميدان طبية وخرج الى النادي العسكري مع اطبائه منتسبي وحدته وعند عودتهم الى الوحدة اوقف الحرس سيارته وطلب سر الليل, فما كان من عبد الهادي والاطباء الذين معه في السيارة وهم كثيرين الا ان غنوا بصوت واحد (سرى الليل ياكمرنه) ثم دخلت السيارة بدون (سر الليل) الذي لم يكن احد يتذكره بعد سكرة محترمة في النادي!.

        لقد كان صديقي وكان ملازما لي اغلب الاوقات وطبعا يستدين ولا يرجع الدين فشعاره في الصداقة هو "شركة الفوضى الاخويه" وكان لايبخل عندما يقبض راتبه العسكري حيث انه كان يدرس على حساب وزارة الدفاع, وكنت تراه ينكت هنا ويعاكس هناك وياخذ سجائر من هذا ويخمط الببسي من ذاك والكل يحبونه وينبسطون معه لمزاحه المستمر. في الملهى لايهم ان نجلس لمائدة شخص بمفرده ثم يشاركه المشروب والسجائر وبرضاه او بدونه فهي ملك مشاع بنظر ابي حسن وهذه هي الاريحية الشبابية او الاشتراكية او سمها ماشئت ولكنها ليست بلطجة, المهم يشرب ويدخن (من تخلص الخرجية).

وبقي هكذا طيلة فترة الكلية الى ان تغير مزاجه كثيرا في الصف الخامس حيث جرب الحب, (اي نعم الحب شنو ماشايفين واحد يحب) خلافاً لعقيدتنا الصلبة!! وهي ان الحب والجلوس مع البنات هو نوع من اللواكة والضعف ولا داعي له!, هكذا كنا نعتقد ولا نعلم ان كنا نمشي صح ام انه الفشل المبرر!. وطبعا لم يثمر حب ابا حسن (يعني تعال تغير 180 درجة, ليش يابه؟) وانما بقي يعاني منه لفترة ليست بالقصيرة.

       ألانكى منها فقد كان يؤلف الاشعار شتما للحبيبة ويطلب مني دوماً بصفتي افهم في الشعر واوزانه) ان انقحها واوزنها واخرجها الاخراج الصحيح, وقد عانيت الكثير من ذلك (وطبعا اشعاره عديمة الوزن والمفهومية) واشهرها قصيدة:"حشرة انتي حبيبتي" ويعرفها الكثير من طلبة مرحلتنا وغيرهم والتي كان ينشدها دائما عند نهاية الجلسات (النؤاسية والتهاب المشاعر).

التقيت معه في العمل في مستشفى عام بعقوبة سنة 1982 اثناء الحرب العراقية الايرانية حيث كنت في ادارة المستشفى وكان هو مسؤولاً عن التنسيق معنا حول الجرحى والاخلاء كذلك التقينا في (لندن) عام 1986 وكنت وقتها اكملت دراستي وتدريبي وقد اضفناه مع شلتي اللندنية من الاصدقاء المتميزين ومنهم دكتور (حكمت جان) ضيافة متميزة حيث عندما دخل النادي الليلي (ابو حسن) فقد قام بتقبيل جميع السيدات هناك وحتى النوادل والمستطرقين وكل سيدة تدخل وعاملات الروليت! وعند احتجاج المدير علينا (لأن ابا حسن مايسمع اي كلام ويعمل العكس) قلنا للمدير ان هذا الامير الكبير من امراء النفط وهذه اول مرة يأتي بها لندن ويرى الحريم وانما كان في الصحراء مع الابل!, وطبعا بشق الانفس إستطعنا ان نقنعه وكانت ليلة متميزة بكل ماهو غريب, بعدها كنا نلتقي بفترات متباعدة في بغداد. من اولاده الدكتور نورس وكان تلميذي وقد كان جيدا وذكيا واعتقد انه الان يشتغل في النمسا, رحم الله اخانا وزميلنا (ابا نورس) فقد كان طيب القلب محبا للفوضى الاخوية, وتقبلوا تحياتي......

 اخوكم ابو رشا

التعقيب التالي وردني من الأخ الدكتور أنعم الصالحي:

"المعشعشين"... 

استمروا في بناء "اعشاشهم" في كل الحروب ... 

و كنت افسر  المختصر العسكري ... (م.م.ط). الذي يعني (ملازم مجند طبيب)..

بأنّه :- "ملازم" .. "مفرزي" .. لانه كان يلقى به في أبعد المفارز .."طيار" ... لانه لا يستقر في عشه بل هو دائم الطيران!.

في الحرب العراقية الايرانية, و في جبهاتها التي طحنت الشباب طحنا, لم يغادر رقبتي "قرص الهوية" ...

(و الذي لا ازال احتفظ به ذكرى لذلك الزمان...) ليحسم الامر إن وقع ...فلم اكن ارغب بان اصبح مجهول الهوية.. 

كانت عملية صعود الدبابات الى قمة جبل كورك بقيادة (سعيد حمو) عملية عسكرية فريدة, حسمت القتال على محور راوندوز - حاج عمران. 

و فكت الحصار عن ربايا الجيش على جبل نواخين, التي كان يقودها م.اول سعدي طعمة (وزير الدفاع لاحقا... و قد توفي في السجن قبل مدة قصيرة) و التي صمدت طيلة شتاء ذلك العام...

و كما ذكرت فقد قدم الجيش العراقي المئات من الجنود و الضباط  ليكونوا حطباً لنار الحرب.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب