10- غرفتي.. مغارتي

هذه  المدونة تحكي عن فترة خدمتي  الالزامية في الجيش (1974-1976) حيث تم منحي رتبة ملازم مجند احتياط في الحرب التي دارت في شمال العراق بين الجيش العراقي من جهة وبين المقاتلين الذين كانت تسميتهم الرسمية (العصاة) (المتمردين الاكراد) وتساندهم القوات الايرانية. 

     10- غرفتي.. مغارتي

ا د سامي  سلمان

  زميلي الذي جئت كبديل له, الدكتور (نوبار).. إسمه الكامل (نوبار آرام سيتيان), هو أرمني عراقي, إنسان في منتهى الطيبة ودماثة الخلق. هادئ جداً لاتكاد تسمع له صوتاً.  زاملته في (كلية بغداد) ومن  بعدها في  (كلية طب بغداد). كان أشقراً ذا عينان زرقاوان, طويل القامة, مخلصاً في تعامله مثل كل المسيحيين الأصلاء, بعد إلتحاقي بالفوج إستغرق وقتاً بسيطاً في جمع حاجياته القليلة في دقائق ثم حاول أن يذكر لي كل ما يمكن أن تواجهني من صعوبات في هذا الفوج وكيفية التعامل  معها, ثم وفي منتصف الليل ودعته ومضى مع (سرية البغال) المغادرة نحو الوادي أسفل  الجبل.

     كان زميلي الدكتور (نوبار) قد دلني على غرفة نومي.. ويالها من غرفة!.. كانت (مغارة) صغيرة موجودة بشكل طبيعي في داخل الصخور التي نحتلها على قمة (زوزك). مغارة لايتجاوز عمقها المترين وإرتفاعها وعرضها نصف متر فقط, القيت فيها حقيبتي الصغيرة و(كيس النوم) المصنوع من النايلون والقماش والمحشو بالصوف, وهو (كيس) كان رفيق سفري الى (أوربا) عندما كنت طالباً في كلية الطب, مصمّم  كي يعطيك إحساساً بالدفء حتى في درجات الحرارة التي تصل تحت الصفر ليلاً!. والمغارة ضيقة الى درجة لايمكنك أن تجلس داخلها, لذلك فبعد إستيقاظي كنت أقضي النهار جالساً على صخرة الى جانب مغارتي مستمتعاً ببعض دفء  الشمس, إما للقراءة أو لفحص الجنود. أحياناً أقضي الساعات جالساً على حافة القمة تماماً.. وأنا انظر الى الأسفل.. الى الطريق الرئيسي وهو القادم من من (كلي علي بك) والمتجه الى (كلاله) و (حاج عمران)..  جبل (زوزك) شاهق الى درجة إنك لايمكنك التعرف على المركبات التي تسير  على ذلك الشارع غير  إنها نمل يدب على خط رفيع.. الهدوء رائع ولا ضجيج ولا ضوضاء ولا أصوات محركات .. هدوء تام يبعث على السكينة والتأمل..الهواء عليل.. ورغم إننا محاطون بالثلوج من جميع الجهات إلا إن أشعة الشمس كانت دافئة طيبة ومنعشة.. وأخذت  أعشق هدوء هذا الجبل وأتمنى أن لا أغادره.. أبداً..

    (بهو الضباط) ليس غير حفرة مربعة مساحتها حوالي 20 متراً وعمقها متر واحد ننزل لها ببضع درجات, محاطة من  الخارج بالصخور وأكياس الرمل. ومحاطة ببعض الشجيرات الخضراء التي تعطيها عبقاً لطيفاً. في أوقات الطعام كنا نجتمع نحن الضباط  سوية على طاولة مستطيلة, حيث  يجلس آمر الفوج, وهو إنسان عسكري محترف رائع من أهالي الموصل, الى صدر الطاولة, وننتظر أن يبدأ هو بوضع ملعقة الطعام في فمه, قبل أن نمد أيدينا الى طعامنا ونتناوله!.. ونتناول طعامنا في وقت نتبادل فيه الأخبار والآراء, ولا تخلو جلسة الطعام أو بعدها, أثناء غسل أيدينا بماء (مّج) من إذابة كتل الثلج.. من أسئلة طبية معظمها في غاية السخف, يسألها ضباطنا بإهتمام بالغ عن (فائدة البصل) و(أضرار الشلغم والفجل)! و(أحسن وضع للوقوف) و(وضع الإنحناء) لغسل اليدين!..

       بعد تعب النهار, بين فحص الجنود والدراسة والتمشي على صخور قمة الجبل, نهاري الذي أقضيه كله خارج (مغارتي).. وفي الليل حينما أحس بالنعاس وأن وقت نومي قد حان, تبدأ معاناة جديدة. حيث يجب أن أدخل (مغارتي) زحفاً!.أدخل برأسي وذراعّي أولاً, وأنا شبه منبطح على بطني, ثم بعدها بقية جسدي..

وما أن أشد (سحابّ) كيس النوم على جسمي ورأسي, وأبدأ  بالخدر والدخول في مرحلة النوم الأولى, حتى أحس بتسلق أعداد كبيرة من (فئران الجبل) التي هي (مقطوعة الذَنَب) فوق كيس النوم على رأسي وجذعي وسيقاني, تتراقص فوق جسمي المغطى كلياً وحتى رأسي ب(كيس النوم), في البداية كان ركض الفئران فوق جسدي يزعجني ويؤرقني وحاولت أن أطردها بيدي أو بأن أهّز جسمي, ثم صرت لا أطردها أثناء ركضها فوق جسدي ورأسي, فبعد بضعة أيام تعودت عليها!, وصرت أستغرق بالنوم  فوراً وبسهولة  دون أن  أتضايق من ركضها ورقصها على جسدي!, فالمغارة مغارتها, وهي في بيتها, يكفي أنها رضيت بي ضيفاً ثقيلاً إحتّل بيتها!, وإذا كان ثمة من يستحق الطرد  فهو أنا!, ذلك الغريب الدخيل المغتصب للمغارةّ!.

في الصباح التالي إستيقظت وقت الفجر وزحفت خارجاً من (مغارتي).. أقدامي وسيقاني أولاً,  ثم تلاها بقية جسدي زحفاً.. توضأت من ماء (الزمزية) مستعملاً (كمية قليلة محسوبة من الماء).. فالماء الصافي عزيز جداً على  قمة الجبل, وهو ترف لايتمتع به إلا الضباط,  لكنه مقنن بحيث إن حصّة الضابط  (زمزمية) واحدة من الماء لاتزيد كميتها عن لتر واحد, هي  ما يستحقه خلال اليوم كله للوضوء والشرب!.. أما الجنود المساكين فعليهم ان يجمعوا الثلج النظيف الخالي من الطين والتراب ثم يقوموا بإذابته على النار كي يحصلوا على ماء يشربونه أو يتوضؤون به..  

     صليت الفجر ثم جلست على صخرة, بينما كنت أراقب الجنود, فقد وصلت تواً (سرية البغال) مع حمولتها قادمة من أسفل الوادي.. هرع الجنود للقيام بواجباتهم من تفريغ حمولة البغال من صناديق العتاد والمدافع والارزاق.. بينما  وصل الجنود المشاة يحملون امتعتهم وأسلحتهم على ظهورهم, يترنحون وقد اصابهم الإعياء من التسلق الصعب للسنون الصخرية.. رأيت أحد الجنود الواصلين وهو يلهث ثم يتجه نحو أحد البغال, ثم رأيته يطوّق عنق البغل بذراعيه ويشبع وجه البغل تقبيلاً وهو يخاطبه بقوله..

"شلونك أخويه؟ خومو تعبان؟ خومو جوعان؟ آني أخوك.. تره أنته هم مظلوم مثلي! إحنه إثنينا مظلومين"..

   لا يمكن أن أصف كّم الحزن والمرارة التي فطرت قلبي وأنا أرى وأسمع نواح ذلك الجندي البائس!.. 


(وردني تعقيب على المقال من الصديق ا.ز ):

      لا ادري لماذا تخيلت ان الجندي الذي طوق عنق البغل تخيلته friday في قصة ( روبنسون كروزو) المعروفة اذ ان موضوع البعد الانساني  وحده لذلك الجندي يصلح لكتابة مسرحية.

      كذلك ذكرتني بموضوع التكيف لدى الانسان و كيف ان الفئران ازعجتك اولا ثم تعودت على ركضها فوق جسدك فيما بعد

    أثناء سجني الإنفرادي حدث نفس الشيء معي إذ وضعت في غرفة تشبه مغارتك من ناحية القياسات اللهم إلاّ الارتفاع فمغارتي أعلى و مغارتك بالتأكيد أنظف إذ لم أستطع النوم في الليلة الاولى بسبب الصراصير التي كانت تتسابق على جسدي و كأنها في حلبة سباق, الى ان تعودت عليها في الايام اللاحقة و التي جعلتني أتحقق من ان التكيّف هو هبة الله إذ لولاه لكنا في خبر كان بينما في حياتنا العادية لا نستطيع أن نتحمل رؤية صرصر واحد في بيوتنا!. 

بوركتم




 

تعليقات

  1. عزيزي دسامي اسلوبك المشوق في الكتابه تجعلنا نعيش المذكرات وكاننا نرى فيلما سينمائيا تسجيليا وليست مذكرات يكتبها طبيب اعلى قمة جبل

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب