1- حرير

  هذه  المدونة تحكي عن فترة خدمتي  الالزامية في الجيش (1974-1976) حيث تم منحي رتبة ملازم مجند احتياط في الحرب التي دارت في شمال العراق بين الجيش العراقي من جهة وبين المقاتلين الذين كانت تسميتهم الرسمية (العصاة) (المتمردين الاكراد) وتساندهم القوات الايرانية. 
1- حرير 
 أ د سامي سلمان
     عند فجر الثاني عشرمن تشرين الثاني 1974 عام الف وتسعمئة وأربعة وسبعين. إنطلقت بنا سيارة ألأُجرة  من (حّي دراغ) في (المنصور) ... ولم تكن الشمس قد اشرقت بعد حين ألقيت بمتاعي على المشبك الحديدي فوق جسم السيّارة... جلست على الكرسي الخلفي من جهة اليمين وجلس صديقي (عجيل العجيل جهة اليسار, يتوسطنا محشوراً زميلنا (علي  غالب الحداد),  بعد ان ألقى كل منهما بأمتعته  على المشبك فوق السيارة... أمتعتنا كانت تتكون من فراش خفيف وبطّانية (في المصطلح العسكري يسمونها يطغ) وحقيبة صغيرة تحتوي على أدوات حلاقة وغيارات داخلية ....  رفيق سفرنا الرابع كان (محمد جنيد صلاح الدين) الذي احتل المقعد الامامي بجوار السائق...

    إنطلقت بنا السيارة متجهة إلى (أربيل) وقد وصلناها عصراً... نزلنا بأمتعتنا في (كراج نقليات اربيل) والذي كان يعج بالجنود.. بعضهم تبدو عليه السعادة بالذهاب في إجازته الى أهله وآخرون يبدو انهم يلتحقون بوحداتهم.. لم يكن هناك إلاّ قلة قليلة من المدنيين.. وقفنا في أحد زوايا الكراج نرقب امتعتنا عندما اقترب  منا أحد الضباط وهو يسأل عن قريب له.. لا أدري كيف عرف بأننا اطباء! ثم عندما اجبناه بأننا لانعرف قريبه هذا طلب منا ان ينظر الى كتب الالتحاق التي يحملها.. وتشاء الصدف ان معه سيارة عسكرية من نوع (واز قيادة) وقد جلس فيها الجندي-السائق ينتظر, وتطوع هذا الضابط ان يوصلنا الى (حرير) لانها تقع على طريق وحدته العسكرية. وافقنا على الفور فنحن نتمنى ان نصل  (حرير) قبل الظلام.. القينا بامتعتنا في السيارة وصعدنا فرحين لهذه الصدفة السعيدة. 

      الضابط أمر الجندي السائق بأن يتنحى عن مقعده كي يتولىّ هو قيادة السيارة!.. قطعت السيّارة المنعطفات الخطرة التسعة التي تصعد بنا الى (مصيف صلاح الدين).. كان الضابط يريد ان  يرينا مهارته في سياقة السيارة.. فكانت قيادته في منتهى الرعونة مما ارعبتنا كثيراً..  كان يصل الى قمة مرتفع ثم يضع عصا تغيير السرعة على الحياد (البوش) تاركاً السيارة تتدحرج حرة وبسرعة كبيرة!.. وكان الجندي (السائق) يكتفي بتحذيره مكرراً لفظة (سيدي.. ديربالك)!.. أمّا نحن فبقدر سعادتنا بوجود من سوف يوصلنا الى  (حرير).. بقدر ما قضينا الوقت مرعوبين وهامسين بالأدعية والإبتهالات بأن نصل بالسلامة!... ثم بعد (صلاح الدين)  اخذنا بالنزول متجهين إلى (شقلاوة)... بعدها إبتدأنا بالصعود مرة أخرى مروراً بجبال وممرات ضيقة قرب (كلي علي بك).. لنصل الى تقاطع مفرق طرق.. تكون فيه (راوندوز) متربعّة على مرتفع يمين الطريق ... اما (حرير) فتقبع في أسفل الوادي الى يسار الطريق...

         وصلنا حرير بعد الغروب.. إلتحقنا بالوحدة العسكرية حسب الكتب السرية التي نحملها موجهة الى (وحدة الميدان الطبية الخامسة) والتي يرمز لها عسكرياً ب (وم ط 5).. دخلنا باب مقر الوحدة والتي كانت تحتل احدى البنايات الكبيرة التي أظّنها كانت سابقاً احدى الدوائر الحكومية المدنية.. رئيس عرفاء (القلم السري) الذي إستلم كتبنا وقام بتدوين مافيها في دفتر خاص, إصطحبنا الى غرفة (الآمر) للتعرف والسلام عليه...

       فور لقائي ب(النقيب الآمر) شعرت بقشعريرة في جسدي.. هذا الشخص أعرفه حق المعرفة... أين ياربي؟ لست أذكر.. ولكني بالتأكيد إلتقيته سابقاً.. عادة امراء وحدات الميدان الطبية هم خريجو سنة واحدة تسبقنا في الكلية الطبية... يكونون قد قضوا سنتين بعد التخرج, منها سنة كمقيمين دوريين في المستشفيات العسكرية و سنة  في كلية الضباط الاحتياط... وبعدهما يتم توزيعهم على الوحدات الفعالة...

          في تلك الفترة كانت المعارك شرسة للغاية بين القوات العراقية و(التمرد) الذي يقوده (الملا مصطفى البارزاني).. وبسبب التوتر السياسي مع (إيران) وعدم الإستجابة لمطالبها التوسعية, فقد دخلت قوات شاه ايران (محمد رضا بهلوي) بكل ثقلها داخل العمق العراقي بمدفعية ثقيلة لإسناد (التمرد), مما كلف القوات العراقية خسائر فادحة في الأرواح والمعدّات.. وربما كانت (حرير) و(راوندوز) هي آخر المناطق التي يسيطر عليها الجيش العراقي, امّا المناطق التي تليها ولغاية (حاج عمران) فقد كانت بيد (العصاة) كما كانت التسمية الرسمية لل(متمردين ألاكراد)!...

     نظر آمر وحدة الميدان الي بتأمل طويل... ثم سألني هل كنت  مقيماً دورياً في مستشفى (طوارئ الرصافة)؟... أجبت "نعم"..  وعندها تذكرت فوراً من هو!!...

      مرّت وخلال ثوانِ ذكرى مريضة شابة في العشرين من عمرها.. جلبت لنا وقد إلتهمت الحروق الناريّة تسعين بالمئة من جسدها... وعندما وصلت المستشفى كانت في حالة من تسمم الدم وعجز الكليتين... أخبرت النسوة اللاتي يرافقنها إنّ حالتها خطرة وعليهن البقاء قريباً من المستشفى لكي نعلمهم بالتطورات,

لكنها قد لن تعيش ليلتها هذه... في نفس تلك الليلة جائني أحد الضباط برتبة (ملازم أول), عرفني بنفسه بأنه طبيب عسكري... وكان في أشد حالات الهياج والغضب لأنني اخبرت ذوي المريضة.. وهي شقيقة زوجته, بأنها في حالة خطرة وقد لاتتمكن من النجاة من ليلتها هذه... وعبثاً حاولت ان اهدئ اعصابه وإفهامه ان هذا هو السياق المتبع في مستشفانا مع جميع المرضى التي تكون حروقهم اكثر من تسعين بالمئة وهو إجراء مهم كي يعرف ذوي المريض مدى خطورة الحالة ويتهيأون لها نفسياً على الاقل... لم تفلح كل محاولاتي لتهدئته من هيجانه وأخذ يتجاوز ويشتم ويهدد بالضرب وبالإعتداء... تعجبت من هذا التصرف والذي يصدر من (زميل طبيب)... وتدخل باقي منتسبي المستشفى في التفريق بيننا وبحضور شرطة حماية المستشفى أبعدوه عن المستشفى وهو يرغي ويزبد.. وكما توقعنا تماماً لم تنج مريضتهم من ليلتها هذه وأسلمت الروح قبل الصباح...

       هذا الشخص... هاهو أمامي... يشاء حظي العاثر ان يكون هو (آمر) وحدة الميدان التي إلتحقت بها... ياللصدفة السعيدة... مستقبلي سيكون مشرقاً في هذا المكان!!...

     في ظهر اليوم التالي كنا جالسين للغداء جميعاً مع (ألآمر) وكان هناك (ضيف) جاء للغداء معنا... انه الصديق العزيز الدكتور(صالح الصباغ)... كان عندها برتبة (نقيب طبيب) وكان آمر مستشفى (راوندوز) العسكري... ويبدو انه قد اعتاد ان يأتي بين حين وآخر للغداء في (وم ط 5).. أخبرت (صالح) بالورطة التي أنا بها مع (ألآمر)... وبعد ساعات عاد فكلمني بأنه تحدث معه وإنّه حاول ان يهدئ الخواطر ويقنعه بنسيان أضغانه القديمة... ثم قال لي : "لماذا انت قلق من حقده عليك؟ ما الذي تتصور بأستطاعته ان يفعله لك؟ إن اسوأ ما يمكنه فعله هو ان لا يتركك ترتاح وتستمتع بالبقاء في مقر وحدة الميدان, وقد يرسلك في أوّل مفرزة طبية على الخطوط الأمامية تقع بيده!..

       إلا ان أسوأ مخاوفي قد حصل...  فبعد ليلتي الثانية في (حرير) تم إيقاظي فجراً من قبل (رئيس عرفاء الوحدة).. والذي سلمني مضروفاً (سريّاً) للإلتحاق بإحدى الوحدات العسكرية وهي مقر (الفوج السادس لواء ستة وتسعين) (ف6 ل96 ) والتي مقرها في منطقة (بستانة), عند القاعدة الجنوبية لجبل (سفّين) المطل من الجهة الاخرى عند شماله على (راوندوز)... وهكذا حقّق (ألآمر) أول إنتقام له مني على المشاجرة التي حصلت قبل سنة في مستشفى (طوارئ الرصافة)..


تعليقات

  1. من الافضل ان تذكر الاسماء اسم هذا الضابط الطبيب الذي انتقم منك لكي يعرف القراء حقارات هؤلاء

    ردحذف
    الردود
    1. نعم ، علينا ان نذكر الاسماء بوضوح ، فهو ليس اول من يسيء التصرف ولن يكون آخرهم. الزمالة لا تعني عدم كشف السيء ، بل تعني الدفاع عن الحق والمحق.
      رمزي برنوطي

      حذف
    2. رمزي الغالي.. كم أنا سعيد انك علقت على مدونتي.. فأنا أغرف اهتمامتك الادبية منذ زمن.. رغم انني اعرف اسمه إلا انني
      مؤمن بالقول ب (عظموا انفسكم بالتغاضي

      حذف
  2. سردية مهمة وحزينة وشجاعة في نفس الوقت .. مع محبتي

    ردحذف
  3. منذ ذلك الحين والزمان توجد المشاحنات.. كنت اعتقد انها حديثة العهد بسبب الظروف.. مع الاسف على هذه العقليات

    ردحذف
  4. للأسف ورغم اعتزازنا بجميع زملائنا الأطباء الا انه يوجد من هو على شاكلة هذا الآمر الذي تناسا الزماله وظل أسيرا لاحقاده القديمه

    ردحذف
  5. على الاقل كان هناك شرطه تحمي الطبيب من اعتداء اي شخص حتى لوكان ذا رتبه عسكريه لانه بكل بساطه كان هناك بلد اسمه العراق

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

4-2 بكرين و صدّامين وأربع قصص حزينة

2-16 دار اطباء مستشفى الكرامة

2-3 فوندو-سكوب